** كم يستفزني الحديث في بلادنا عن المحافظة والحداثة.. أو عن المحافظين الذين يوصفون بالرجعيين، والحداثيين الذين ينعتون أنفسهم بالمتنورين.
وكلما خضت الحديث عن هذين الطرفين، إلا وتساءلت هل فعلا يعيش بيننا حداثيون؟ لكنني لا أتساءل مطلقا حول ما إذا كان المحافظون يمشون في أسواقنا، ويأكلون طعامنا، وينامون مثلنا.. لأن المحافظ شخص يوجد بكل المجتمعات الإنسانية، بينما الحداثي لا يوجد في اعتقادي إلا في المجتمعات التي حققت طفرة عميقة على صعيد المدنية والتكنولوجيا وثورة وسائل الإعلام.
مجتمعاتنا العربية قد تحقق حداثتها وفق خصوصياتها الاجتماعية والأخلاقية، والمغرب جزء من هذه المجتمعات، يصعب عليه أن يكون حداثيا بالمنظور الفرنسي أو الأمريكي، وذلك لاعتبارات عديدة، أهمها أن مجتمعه يخضع قسرا لظواهر سلبية عميقة، لا تسمح له إطلاقا بتحقيق ولو خطوة واحدة صوب أي واقع حداثي شبيه بواقع الغرب المتطور.. منها ظواهر الجهل والأمية والأمراض البدائية، ومنها اتساع حجم مدن الصفيح، وتناسل الطرق المحفرة، وسيادة البيروقراطية الإدارية، واستمرار الظلم الإجتماعي محركا أساسيا في توزيع الثروة والسلطة.. وغيرها من الظواهر التي تصنفنا ضمن خانة الدول المناضلة من أجل تكريس تنمية مستديمة وراشدة.
أسباب الحديث عن المحافظة والحداثة، استدعته المعركة السياسية التي اندلعت مؤخرا بين حكومة إسلاميي عبد الإله بنكيران ومدراء بعض القنوات التلفزيونية وخاصة قناة الدوزيم.
فهذه المعركة فجرت سؤالا أكثر عمقا، وأوضح أثرا في الشارع المغربي، وهو: هل تحول التلفزيون المغربي إلى موقعة للصراع بين طرفين، يقال لأحدهما حداثي، والآخر محافظ؟ وهل فعلا هناك طرف يتصف بالحداثة؟ ولكن أية حداثة؟ وهل الحداثة هي إدارة الظهر والوجه لكل ما هو مغربي؟ لكل ما يتصل بحضارتنا وتراثنا وثقافتنا الأصيلة والمعاصرة والمتطورة؟ أم أن الحداثة هي تقليد الآخر المختلف عنا شكلا ومضمونا؟ أم هي الهرولة نحو الإستجابة لحاجيات الآخر لغة ومسرحا وسينما وأفلاما درامية؟.
أسئلة تم التداول في متنها و مضمونها داخل أوساطنا المهنية والشعبية لأيام طوال، حيث بدا أن الجميع كان يتجه إلى القول أن التلفزيون المغربي مطالب بالعودة إلى مشاهده المغربي، وأن القائمين على تسييره منذ مدة عمرت طويلا، وجب عليهم أن يكفوا عن إعلان ولائهم تلفزيونيا لثقافة فرنسا.. وحساء فرنسا.. وشكولاطا فرنسا.. أو أن يذهبوا حيث شاؤوا، ولكن بعيدا عن هذا التلفزيون الذي يؤدي الشعب المغربي فواتيره من ماله ودمه ومستقبله.
إن التلفزيون الذي لا يحترم مشاهديه، ولا يحزن لحزنهم، ولا يبكي على عشرات من ضحايا حرائقهم وحوادث سيرهم، ويصر –بالرغم من ذلك وضد أنوفهم- على الرقص فوق آلامهم بسهرات صاخبة، ومسلسلات مكسيكية ولاتينية قذرة، وبرامج ثقافية غثائية، لا يستحق أن يشاهد، وأن يدعم بأموال الشعب وجيوبهم الفقيرة.
لذا، فإن المعركة اليوم لا علاقة لها بالحداثة أو المحافظة، ولكنها معركة هوية، وعنوانها اللغة الفرنسية، التي تذكرنا – شئنا أو أبينا – بالإستعمار الفرنسي القذر، وبدماء شهدائنا الذين قتلتهم باريس الهمجية، ولم تعتذر عن جرائمها بعد، ولم تعوض عائلاتهم عن فقدانهم.
إن اللغة الفرنسية غير مدسترة، واستعمالها تلفزيونيا أمر معيب دستوريا وثقافيا وحضاريا.. والغريب أن جارتنا الإسبانية تملك أكثر من مئة قناة تلفزيونية محلية وفضائية، غير أن الملفت للنظر في هذا الرقم، هو أن جميع هذه القنوات ناطقة بالإسبانية، وبالرغم من ذلك فإن لا أحد بإسبانيا يربط هذا الأمر بالانفتاح والتعددية والحضارة.. ونفس الوضع تعيشه فرنسا وألمانيا، مع استثناء بسيط هي أن فرنسا خصصت قناتها «فرنسا 24» للحديث باللغة العربية وأخرى للغة الإنجليزية، بيد أن الملاحظ هي أن هذه القناة أنيطت بها مهمة الإخبار، طمعا في استمالة المشاهد العربي، واستدراجه إلى المعلومة الفرنسية المؤدلجة، والاكتفاء بها دون غيرها، خصوصا وأن التنافسية في الإقبال على معرفة أخبار العالم، بات محركا جوهريا في إنشاء القنوات الفضائية.. لكننا هنا نتساءل، ما هو حجم ونسبة البث التلفزيون الفرنسي للغة العربية أو الدارجة المغربية؟ ولبرامجنا الثقافية؟ ولأفلامنا وأعمالنا الدرامية؟..
نحن لا ننتظر الجواب، لأن فرنسا لم ولن تفكر في هذا الأمر أبدا، بل وحتى إذا تمكن أبناء جاليتنا من الوصول إلى الحقائب الوزارية بحكومة باريس، فإن فرنسا لن تساهم في ترويج ثقافتنا وفننا وأغانينا.
إن معركة اللغة الأجنبية في التلفزيون المغربي ليست قضية مطروحة (على الأقل من زاوية لغوية إنسانية حضارية)، وإلا وجب علينا التفكير في 23 لغة يتحدث بها شريكنا الأول الأروبي.. ثم إن توجه مشاهدينا بصورة تتجاوز 90 في المائة نحو القنوات العربية، يدفعنا لحسم هذا الملف، والتوجه بالتالي نحو الإهتمام بتقديم خدمة إعلامية عمومية ذات جودة وتميز، نلمس فيها مشاكلنا وصورنا الاجتماعية، ونحس فيها بهويتنا وثقافتنا، ونتفاعل معها بحماس وإيجابية وتقدير.